تشتهر أنطاكيا بتراثها التاريخي الفريد الذي يعود إلى آلاف السنين، وقد امتزجت هوية المدينة القديمة بأنقاض المنازل وأكوام الخراب التي غطت المكان بعد الزلازل المدمرة.
فبعد أن ضرب زلزالان مدمران جنوب شرق تركيا في 6 فبراير/شباط ، وقع عشرات الآلاف من القتلى والجرحى وحل الدمار في أجزاء واسعة من جنوب تركيا وجنوب شرقها.
ولسوء الحظ، تحولت الكنائس القديمة والمساجد التي تعود إلى قرون، والقلاع والمنازل وآلاف السنين من التاريخ إلى أنقاض.
ومنذ ما يقرب من أسبوعين، عاش محمد عصمت في أنقاض واحدٍ من المساجد التاريخية المحبوبة في أنطاكيا، وكان الرجل يعمل معلماً في مدينة باتت مدمرة الآن، بعد أن كانت مشهورةً منذ آلاف السنين بكونها ملتقى للحضارات ومركز تبجيل المسيحيون والمسلمون واليهود.
ولجأ الرجل السبعيني إلى مسجد حبيب النجار بعد زلزال بلغت قوته 7.7 درجة. وكان ينام ويصلي تحت الأقواس القليلة التي لا تزال قائمة، حداداً على مستقبل مدينة أحبها كل من رآها.
واليوم يبدو الدمار في أنطاكيا شبه كامل، وجزء كبير من المدينة مجرد أنقاض. لقد غادر الجميع تقريباً. ثم ضرب زلزال جديد قوته 6.4 درجات المكان من جديد، وكان مركزه ولاية هطاي حيث تقع أنطاكيا، ما أسفر عن مقتل أشخاص وإصابة أكثر من 200 شخص وتسبب في انهيار المزيد من المباني، وفي بعض الأحيان محاصرة الناس.
وقال عصمت للصحفيين: "يمكن إعادة بنائه" مشيراً إلى الدمار الذي لحق بالمسجد، حيث جلس في الفناء مع صديق له بجوار مدفأة تعمل بالحطب. "ذهب القديم ولم يبقَ منه سوى الاسم فقط".
دمرت أنطاكية في العصور القديمة عدة مرات بسبب الزلازل وأعيد بناؤها عبر التاريخ. لكن السكان اليوم يخشون أن يمر وقت طويل قبل أن تتعافى من هذه الكارثة، وألا يتمكن أحد من استعادة هويتها التاريخية الفريدة بالكامل بعد كل هذا الدمار الهائل.
بنيت أنطاكية عام 300 قبل الميلاد بأمر من أحد قادة الإسكندر الأكبر في وادي نهر العاصي، وكانت واحدة من أكبر مدن العالم اليوناني والروماني، وتنافس الإسكندرية والقسطنطينية. يُقال إن القديسين بطرس وبولس أسسا واحدة من أقدم المجتمعات المسيحية هنا، حيث ظهرت كلمة "مسيحي" لأول مرة، ثم جذبت فيما بعد الغزاة المسيحيين الصليبيين والمسلمين. ويعتبر اندماج الأديان السماوية جزءاً من شخصية المدينة.
ويعتقد عصمت أن آية في القرآن الكريم تشير إلى ثلاثة رسل بعثهم الله إلى بلدة يحثون أهلها على اتباع كلمته، لكن أصحاب البلدة رفضوا، ودمر الله المدينة بانفجار عظيم. ولم يذكر القرآن اسم المدينة، لكن العديد من العلامات تشير إلى أنها كانت أنطاكية القديمة. واليوم رأى عصمت درساً جديداً من خلال الدمار الحالي.
أوحول هذا الدمار يقول عصمت: "كل الأديان كانت هنا. كنا نعيش بنعمة وسلام. ثم سادت السياسة والنفاق، وتبع ذلك الخلاف. لقد اختلف الناس... وصاروا يسرقون بعضهم البعض. لذلك عاقبهم الله".
ويستحيل الآن الوصول إلى المسجد إلا عن طريق التسلق فوق أكوام من الخرسانة والحجارة القديمة التي كانت ذات يوم مدينة أنطاكيا القديمة. ولدى تتبع تاريخ أنطاكيا عبر الحقب العديدة نجد الموقع قد احتوى في البداية على معبد وثني قديم ثم كنيسة قبل أن يستقر أخيراً كمسجدٍ تم بناؤه في القرن الثالث عشر. وفي زلزال عام 1853 تم تدمير المسجد وأعاد العثمانيون بناءه بعد 4 سنوات.
وحول تدمير معالم المدينة قال يحيى جوشكون نائب المدير العام للمتاحف التركية والتراث الثقافي: "ربما في غضون شهر واحد، سنبدأ التجديد أو التنظيم".
من جانبه قال جان استيفان صائغ الفضة وأحد المسيحيين القلائل المتبقين في المدينة: "تدمير أنطاكيا خسارة للبشرية... ما زلنا نريد العيش هنا وليست لدينا نية للمغادرة".
كذلك دُمرت كنيسة الروم الأرثوذكس في أنطاكيا التي كانت مقر بطريرك الروم الأرثوذكس حتى القرن الرابع عشر، في زلزال عام 1872 وأعيد بناؤها.
وقال فادي حوريجيل رئيس مجلس إدارة مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في أنطاكيا: "هذه كارثة على التاريخ مرة أخرى".
وقطعت جبال الأنقاض الطرقات بين المساجد القديمة، وعم الخراب البازار القديم، وباتت المباني المحطمة تصطف في شارع كورتولوس الذي يُقال إنه كان أول شارع مضاء في العالم حين أنارته المصابيح ليلاً في العصر الروماني. وتضررت أجزاء من المتحف الأثري.
وبعيداً عن وسط المدينة، تضررت مجموعة من السلالم المؤدية إلى إحدى أقدم الكنائس المسيحية "سانت بيير"، التي بُنيت داخل كهفٍ في الجبل، وتضم أقساماً يعود تاريخها إلى القرن الرابع.
وظهرت التصدعات في جدران كنيس أنطاكيا، موطن الجالية اليهودية في المنطقة التي يبلغ عمرها 2500 عام. وفارق رئيس الجالية اليهودية في المدينة وزوجته الحياة. وقال الحاخام ميندي تشيتريك رئيس تحالف الحاخامات في الدول الإسلامية، إنه تم نقل حوالي 12 من السكان اليهود، ونسخ من التوراة التي كانت في الكنيس مؤقتاً، إلى إسطنبول.
مضيفاً إنه سيكون من الصعب على مجتمع الشباب والكهول الذي تضاءل بسبب سنوات الهجرة، إعادة البناء. "ومع ذلك، أنا متأكد من أنها ستعود".
بولنت جيفجلي من سكان المنطقة، قُتلت والدته في الزلزال واستغرق إخراج جثمانها أسبوعاً، أعرب عن أمله بعودة المدينة إلى ما كانت عليه قائلاً:
"بعد 7 مرات، أعادوا البناء وأعادوا الحياة من جديد. والآن هذه هي المرة الثامنة، وإن شاء الله... سوف نعيش فيها مرةً أخرى".